ذُهِل اللبنانيون في الأشهر الأخيرة من العام 2014 للفضائح الغذائية التي احتلت أخبارها عناوين الصحف ونشرات الأخبار، إذ اكتشف اللبنانيون أن الأطباق والمنتجات الغذائية التي يحبونها غير أمنة للاستهلاك. وتجددت الضجة التي رافقت الفضائح الغذائية بعد تغريدة وليد جنبلاط التي كشف فيها أن مطعماً مهماً في وسط بيروت يبدأ اسمه بحرف الباء، استخدم نفوذه لدى السياسيين لاستبعاد اسمه من "لائحة العار". وأشعلت هذه التغريدة موجة جديدة من الجدل والتساؤلات في شأن احتمال وجود دوافع سياسية لحملة وزير الصحة الغذائية، وفي شأن مصادر المعلومات التي يمكن الوثوق بها في لبنان.
نسي اللبنانيون لوهلة هموم الأمن وجدل السياسة العقيم، وبات موضوع الساعة لديهم الفضيحة التي طالعهم بها وزير الصحّة العامة وائل أبو فاعور في مؤتمر صحافي كشف فيه أنّ عدداً كبيراً من المؤسسات الصناعية والتجارية والمطاعم لا تلتزم المعايير الصحية للغذاء، وتقدّم لهم مواد غير مطابقة للمواصفات. وأتبع ذلك بنشر لوائح للشركات والمؤسّسات المخالفة التي قال إن وزارة الصحّة فحصتها وتبيّن لها أنّها غير متوافقة مع معايير الصحّة والسلامة. واستحوذت هذه اللوائح على اهتمام الناس الذين فوجئوا باسماء كبيرة فيها، مما حدا بعدد من المؤسسات المعنية إلى محاولة التصدي للاتهامات وللشائعات التي حيكت حولها وانتشرت كالنار في الهشيم، وسعت إلى الحدّ من الأضرار الناجمة عن إيراد أسمائها في اللوائح، وإلى تلميع صورتها وإنقاذ سمعتها. وتعددت وسائل المواجهة التي اعتمدتها هذه المؤسسات، فنجح بعضها في استدراك الأمر، وفي استثارة تعاطف زبائنها معها، وإبراز تعلقهم بها، في حين لم يؤد ردّ فعل مؤسسات أخرى سوى إلى التسبب بمزيد من الالتباسات وخلق مزيد من الافتراضات.
"كبابجي" مثلاً انتظر مرور 24 ساعة كاملة على المؤتمر الصحافي لوزير الصحّة، لإصدار بيان في شأن ورود اسمه في لوائح وزارة الصحة، وبعد أن نشر هذا البيان على وسائل التواصل الاجتماعي، عاد إلى نشاطه الإعلاني التجاري المعتاد من دون أيّة متابعة للموضوع. أما "رودستر"، فسارع في المقابل إلى إصدار بيان بعد ذكر اسمه ضمن لائحة المخالفين لمعايير وزارة الصحّة في 13 تشرين الثاني. ولكن، بدوره، اكتفى "رودستر" ببيانه وبعبارات الدعم التي تلقاها بكثافة من روّاده، فعاد سريعًا أيضاً إلى نشاطه الإعلاني المعتاد. وعلى الرغم من أنّ "رودستر" و"كبابجي" تجنّبا في إعلاناتهما التي تلت ضجة اللوائح، التطرق إلى الرسائل السلبيّة، فإن اكتفاءهما بهذه الدرجة من ردّ الفعل، لا يبدد كليّاً الأفكار المشككة التي قد تكون تكوّنت جرّاء إيراد اسميهما، بل يساهم في مفاقمة عدم الثقة في نوعيّة وسلامة الطعام في مطاعم هذه الشبكتين.
من جهته، لجأ "كريبواي" Crepaway إلى اعتماد درجة من الشفافيّة في ردّ فعله على إدراجه ضمن لائحة وزارة الصحّة، وذلك بنشره تقريرًا مخبريًا على صفحته في شبكة "فيسبوك"، مرفقًا ببيان يشرح أنّ مختبره أظهر نتائج مختلفة عن تلك التي استندت إليها الوزارة، وأنّ هذا التباين سيتم بحثه أكثر مع الوزارة. ولكن رغم أنّ "كريبواي" قارع الحجة المخبرية بالحجة المخبرية، فإنّ اعتماده هذا الأسلوب قد يثير أسئلة أكثر مما قد يقدم أجوبة، وبالتالي قد لا يُطمئِن المستهلكين كليًا.
وبدورها، لجأت المؤسسات التي تختص بالدجاج، على غرار "تنمية" و"هوا تشيكن"، إلى وسائل التواصل الاجتماعي للإجابة عن تساؤلات المستهلكين ولتبديد قلقهم. ونشرت "هوا تشيكن" وجهة نظرها في شأن تقرير وزارة الصحّة، في حين أصدرت "تنمية" توضيحاً بأنها لم تكن بين المخالفين للصحّة والسلامة، ونظمت حملة إعلانية في مختلف وسائل الإعلام تحت شعار "صفحتنا...بيضة". ومع ذلك، كان تعامل الشركتين مع الأزمة وفق منطق رد الفعل الهادف إلى الحدّ من الذعر الذي أدى إليه المؤتمر الصحافي لأبو فاعور.
أما مؤسسة ABC فأطلقت حملة إعلانية على لوحات الطرق وعبر وسائل الإعلام المكتوبة وعلى الانترنت، تنص بشكل صريح على الآتي: "سلامتك تأتي أوّلاً". وابرزت الحملة أنّ كل مطاعم ABC مرخّص لها من قبل "الجمعيّة اللبنانيّة لسلامة الغذاء". واستهدفت هذه الحملة مباشرةً مخاوف المستهلكين، من خلال طمأنتهم إلى أنّ الطعام في مجمّعات ABC آمن، وتشجيعهم على ارتياد المطاعم التي تضمها هذه المجمعات. وأكثر من ذلك، ركّزت الحملة على أنّ ABC كان يهتم بمسألة الصحّة والسلامة الغذائية قبل أن تثير وزارة الصحّة العامة الضجة في شأنها، وذلك عبر فحص مطاعمها قبل ستة أشهر مما أعلمه الوزير. وساهم نقل بعض المدوّنات اللبنانية هذه الحملة في نشر الرسالة بشكل كبير على الانترنت.
إن أحد الأمثلة الإيجابيّة في الاساليب التواصلية التي اعتمدتها المؤسسات المعنية لمواجهة هذه الأزمة، كان اهتمام بعضها بتظهير حبّ زبائنها لها وتعلقهم بها وثقتهم بمنتجاتها. فروّاد "رودستر" غرّدوا على "تويتر"، وأبدوا آراءهم على "إنستغرام"، وعلّقوا على "فيسبوك"، معبّرين عن ولائهم لـ"رودستر"، مستخدمين مثلاً "هاشتاغ" "#ثقوا برودستر" أو "#أنا أثق برودستر" مع تغريدات وصور لهم يأكلون في هذا المطعم، على الرغم من أنّ أحد الفروع ورد ضمن لائحة الوزارة. وظهرت كذلك تعليقات مفادها أن في الإمكان الوثوق بـ"رودستر" أكثر مما يمكن الوثوق بالحكومة. ومن أبرز المتضامنين مع "رودستر" النجمة "إليسا" التي وضعت صورة على "إنستغرام" لوجبة "تشيكن برغر" من "رودستر". ولكن، رغم كل ذلك، إذا لم تقم "رودستر" نفسها بعمل تواصلي فعّال، تبقى فاعلية هذه المشاعر التي عبّر عنها روّاد مطاعمها، محدودة الفاعليّة ولا يمكن البناء عليها كليّاً، إذ ربما يُنظَر إليها على أنها آراء لبعض المستهلكين قد تقابلها آراء معاكسة لغيرهم، مما يحول دون تجذّرها كحقيقة ثابتة ترسخ الثقة بمطاعم "رودستر".
إن المؤسسات الغذائية، سواء تلك التي طالتها الإتهامات أو حتى المؤسسات الأخرى غير المشمولة باللوائح، تحتاج اليوم قبل الغد إلى أن تزيل من عقول الناس الصورة التي كوّنتها في أذهانهم اللّقطات التلفزيونية المقززة التي عرضتها وزارة الصحّة في وسائل الإعلام خلال الآونة الآخيرة. ويكون ذلك عبر عرض هذه المؤسسات لقطات تلفزيونية توثيقيّة إيجابيّة ومطمئنة، وصورًا فوتوغرافيّة تنشرعلى وسائل التواصل الاجتماعي، عن وسائل النظافة التي تعتمدها هذه المؤسسات، والتحسينات التي أدخلتها، وعن المصادر النظيفة للّحوم وغيرها من المكوّنات الغذائية. وبعد هذه الخطوة التواصلية الشفّافة والمنفتحة، ينبغي على بعض المؤسسات الكبرى التي تملك الموازنات، أن تلجأ إلى إطلاق حملات، بالحدّ الأدنى على وسائل التواصل الاجتماعي، تُظهر فيها التزامها بالنوعيّة ومعايير السلامة، سعياً إلى استعادة سمعتها التي اهتزت بفعل لوائح وزارة الصحة. ومن الأفكار الأخرى في هذا المجال، إمكان البناء على ما عبّر عنه روّاد هذه المؤسسات من دعم وحبّ لها خلال الأزمة، فتبادر مثلاً إلى دعوة المدوّنين اللبنانيّين المشهورين لزيارة مطابخها سعياً إلى طمأنة المستهلكين من خلال مدوّناتهم، واستعادة ثقتهم، فوحدها معرفة ما وراء الكواليس...تبدد الكوابيس.
إن وسائل التواصل الإجتماعي باتت، مع دخول لبنان أكثر فأكثر العالم الرقمي، جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليوميّة للمواطن اللبناني العادي، ووسيلة فاعلة لتناقل الأخبار بين الناس في البلد. ولذلك فإنّ المؤسسات اللبنانيّة بحاجة إلى تغيير مقاربتها للتعامل مع الأزمات، وإلى أن تعتمد في هذا المجال اساليب أكثر استباقيّة وشفافيّة، وذلك باتاحة الفرصة أمام اللبنانيّين للحصول على معلومات مهمّة و"من الداخل"، كما يقال، عن أنشطتها وأساليب عملها والمعايير التي تعتمدها، تماماً كما يحقّ لمالكي المؤسسات أو للشركاء فيها أن يحصلوا على هذه المعلومات. ففي الشفافية شفاء لهذه المؤسسات من آثار الأزمة، ووقاية من أية أزمة مماثلة.
أما نحن اللبنانيّين، فلدينا أيضًا دور نلعبه كمستهلكين، عبر المطالبة بأن تكون كل المؤسسات اللبنانيّة أكثر انفتاحاً من أي وقت مضى، وعبر تحميل هذه المؤسسات مسؤوليّة التزام المعايير بالقدر نفسه الذي نتوقّع من المؤسسات العالميّة أن تلتزم هذه المعايير.